فوائد الإختلاط وضوابطه الشرعية

مخالطة الناس وفق الضوابط الشرعية خير من الاعتزال في كثير من المواطن؛ وذلك للفوائد المتعددة التي يكسبها من خلال احتكاكه بالآخرين، ومن تلك الفوائد:

1- التعلم والتعليم: هناك علوم لا يعذر المرء المسلم بجهلها وينبغي عليه أن يتعلمها وهذه غالبا لا يمكن تحصيلها بغير المخالطة. ووسائل تحصيله لا تخفى علينا إما من خلال الدراسة النظامية، أو من خلال مجالس العلم وحلقاته المقامة في المساجد، أو من خلال الأنشطة الشبابية حيث تقام فيها دروس علمية وحلقات علمية، أو من جانب البحث الفردي الذي يبذله صاحبه، من خلال القراءة والاطلاع، أو من خلال الاستماع للأشرطة العلمية والدروس العلمية .

كما يجب على من آتاه الله علما أو فقها ألا يكتمه ويحجر عليه ، بل الواجب مخالطة أفراد المجتمع لتعليمهم وإفادتهم.

2- التأدب والتأديب: وهاتان اللفظتان تحمل معنى أخص من التعلم والتعليم. فالتأدب كما قال الإمام الغزالي – رحمه الله – يعني : الارتياض بمقاساة الناس والمجاهدة في تحمل أذاهم كسرا للنفس وقهرا للشهوات .

والمقصود من ذلك ترويض النفس على التحلي بالأخلاق الفاضلة التي لا تظهر إلا بالاحتكاك مع الآخرين وكثرة التعامل معهم . ومن هذه الأخلاق التضحية والإيثار والتعاون والصفح عن الإساءة وغير ذلك.

أما التأديب فتعني ترويض الآخرين وتأديبهم وتهذيبهم. وهذا المقام يناسب حال المعلم مع طلابه والمربي مع مريديه أو العالم والشيخ مع أفراد مجتمعه، فيصبر على كثرة مخالطتهم وشغل أوقاته احتسابا لله ومتأسيا في ذلك بأحوال الدعاة الأوائل من سلف هذه الأمة الذين ندبوا أنفسهم وأوقاتهم في الدعوة إلى الله وتعليم الناس الخير. قال تعالى: {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين}.. [يوسف : 108]. وقال صلى الله عليه وسلم: “المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم”.

3- التربية على العمل: إن الإنسان في حياته الخاصة حين يريد إتقان نشاط أو حرفة معينة، كالسباحة، أو قيادة السيارة – على سبيل المثال- حين يريد ذلك فإنه لا يقتصر على الجانب النظري، وعلى سؤال من يجيدونها، بل يعتني بالتدريب والممارسة، والمهارات الدعوية كذلك فهي تُتقن من خلال التدريب والممارسة فحسن الإدارة والتدريس والخطابة كلها مهارات في حاجة للتدريب عليها.

4- نيل الثواب وترويح النفس: ففي مخالطة الناس أداء بعض الفرائض والواجبات كحضور الجمع والجماعات وأداء الحقوق المفروضة بين المسلمين أنفسهم كعيادة المريض واتباع الجنائز وإجابة الدعوة وكذا حضور مجالس الذكر التي يباهي الله بها ملائكته، كما أن في اللقاء بين الناس ترويحا للقلب وتهييجا لدواعي النشاط في العبادة والاستئناس بالمشاكلين والحديث معهم ولذا يوصي الإمام الغزالي في هذا المقام بوصية ثمينة فيقول: “وليحرص أن يكون حديثه عند اللقاء في أمور الدين وحكاية أحوال القلب وشكواه وقصوره عن الثبات على الحق والاهتداء إلى الرشد ففي ذلك متنفس ومتروح للنفس وفيه مجال رحب لكل مشغول بإصلاح نفسه فإنه لا تنقطع شكواه ولو عمر أعمارا طويلة ، والراضي عن نفسه مغرور قطعا”.

وفي أداء الجمع والجماعات وحضور اجتماعات إخوانه المسلمين تحقيق للعبودية المطلقة للخالق، والنفس بطبعها تضعف وتفتر أحيانا ولكنها تقوى وتثبت عند مخالطة مثيلاتها ممن يسيرون على ذات المنهج.

5- معرفة الواقع المحيط بنا وكيد الأعداء: إن المسلم المعاصر يعيش في ظروف وملابسات تختلف عن تلك التي كان يعيشها إخوانه الذين سبقوه بالإيمان في العصور الماضية. فللباطل اليوم صولة وجولة ، والجاهلية المعاصرة تخطو خطوات حثيثة وبوسائل حديثة لإقصاء تيار التربية الإسلامية عن التغيير في مجريات الأحداث لتعبيد العباد لرب العباد في الوقت الذي بذلت فيه تلك الجاهلية قصارى جهودها وإمكانيتها لتعبيد العباد للشهوات والطواغيت. ولقد نجحت في ذلك إلى حد كبير.

إن الإسلام اليوم لا يستقيم عموده فقط بدعاء شيخ في زوايا المسجد أو بإلقاء خطب رنانة جوفاء لا مكان لها في الواقع، ولا يستقيم كذلك بنشر تصريحات في الجرائد والمجلات بل لابد معرفة ورصد الخطط والمؤامرات التي يدبرها أولئك الأعداء ضد المسلمين عملا وتنفيذا لقوله تعالى: {وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين}.. [الأنعام : 55].

فلا يمكن لمسلم اليوم أن يعيش بمعزل عن البيئة والأحداث ولا يمكن أن ينجو من أحابيل شياطين الإنس والجن إن لم يكن يقظا فطنا لما يجري حوله وما يقع تحت بصره ويده من مستجدات وأمور، ومعرفة الواقع تشمل العناية والاهتمام بأحوال المسلمين في أرجاء المعمورة لقوله صلى الله عليه وسلم: “المؤمن من أهل الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد يألم المؤمن لما يصيب أهل الإيمان كما يألم الرأس لما يصيب الجسد “. ولقوله صلى الله عليه وسلم من حديث النعمان بن بشير: “المؤمنون كرجل واحد إن اشتكى رأسه اشتكى كله وإن اشتكى عينه اشتكى كله”.

إن دراسة الواقع وفهمه فهما جيدا من الأمور الهامة جدا في حياة المسلمين لأنها تتعلق ليس بالأفراد فحسب ولكن بالمجتمعات أيضا . وتعد مرحلة دراسة الواقع من المراحل المتقدمة المهمة في العودة بالإسلام عوداً حميداً

فالخلاصة فيما ذكر من فوائد العزلة والمخالطة أن لكل منهما حالات وأوقات ، وهي تختلف من شخص لآخر حسب وضعه الاجتماعي وعلمه وفقهه وحسب الباعث له على أي منهما.

أما ضوابط الخلطة فهي:

1- حفظ الوقت والاعتناء به: ويتأكد هذا الأمر في حق من اشتغلوا بدعوة غيرهم وتربيتهم؛ فهذا العمل يأخذ عليهم زبدة أوقاتهم، لكن الاعتناء بتنظيم الوقت والحزم مع النفس في ذلك مما يعينهم على أن يوفروا لأنفسهم قدرا من الوقت كان يضيع سدى؛ فيستثمروه في تربية أنفسهم والرقي بها، إن استغلال الوقت مهارة وقدرة يحتاج الشاب أن يربي نفسه عليها، وليست مجرد اقتناع من الإنسان بأهمية الوقت.

2- التفاعل مع البرامج العامة: هناك برامج عامة يتلقاها الشاب مع إخوانه، كالدرس العلمي والمحاضرة وخطبة الجمعة واللقاءات الجماعية إلى غير ذلك، وهذه البرامج تحتاج منه إلى أن يتفاعل معها، من خلال التركيز والاستيعاب، ومن خلال أخذ النفس بالعمل والتطبيق بعد ذلك.

3- الجماعية لمن أراد أن يختلط بالناس وكيف يكون ذلك؟ يقول محمد قطب: “وينبغي أن نذكر بصفة عامة أن التنمية النفسية الصحيحة لا تتم في كيان فرد يعيش بمفرده في عزلة عن الآخرين وفي هذه الفترة بالذات – وهو يتحدث عن فترة الشباب الباكر – كيف يتدرب الإنسان على الأخوة إذا لم يمارس الأخوة بمشاعرها؟ مع الإخوة الذين يربطهم به هذا الرباط؟ كيف يتدرب على التعاون إذا لم يقم بهذا الفعل مع أفراد آخرين؟ كيف يتعود أن يؤثر على نفسه إذا لم يكن هناك إلا نفسه؟ إن الوجود في الجماعة هو الذي ينمي هذه المشاعر وهذه الألوان من السلوك، والشاب الذي يعيش في عزلة عن الآخرين وإن حاول أن يستقيم على المنهج السليم تنمو بعض جوانب نفسه وتظل جوانب أخرى ضامرة؛ لأنها لا تعمل”.

إن بعض الشباب يقول: علي أن أنعزل لوحدي لأهتم بتربية نفسي، وهذا غير صحيح فالجماعية مهمة للتربية الذاتية .

4-ترك فضول الصحبة: لما في ذلك من شغل البال وتضييع الوقت عن المهمات وأن يجعل الاجتماع بمنزلة الاحتياج إلي الغذاء والعشاء فيقتصر منه على ما لابد منه فهو روح البدن والقلب.

5- القصد في حالتي العزلة والخلطة: لأن الإغراق في كل شيء مذموم وخير الأمور أوسطها، والحسنة بين السيئتين.

قال الخطابي: والطريقة المثلى في هذا الباب ألا تمتنع من حق يلزمك للناس وإن لم يطالبوك به، وألا تنهمك لهم في باطل لا يجب عليك وإن دعوك إليه، فإن من اشتغل بما لا يعنيه فاته ما يعنيه، ومن انحل في الباطل جمد عن الحق، فكن مع الناس في الخير، وكن بمعزل عنهم في الشر، وتوخ أن تكون فيهم شاهدا كغائب وعالما كجاهل .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى